إن الوجود بما هو م ... من أبرز المواضيع الفلسفية التي عرفها الفكر البشري بشكل عام،والفكر الإسلامي بشكل خاص، ودار فيها الخلاف وكانت منطلق لتساؤل الإنسان وشغفه للوصول إلى الحقيقة هي المواضيع التي تتعلق بالوجود،وأصل الموجود، فقد اختلف العلماء والفلاسفة منذ القدم حول الطريقة الأنجع التي يحصل فيها الإنسان على معارفه كما أنهم اختلفوا على درجة صدقها. فهذا القسم من الفلسفة والمسمى بنظرية المعرفة،ومدى ارتباط هذه الأخيرة بمفاهيم الحقيقة والإيمان والتبرير. إلى جانب دراسة وسائل المعرفة المتوفرة لدى الإنسان.
إن الوجود بما هو موجود أي ''الأنطلوجيا ''هو مبحث حاضر بقوة في أذهان الذين يستغلون فكرهم و التنقيب والبحث عن الحقيقة والبحث عن ألم الرأس،وخير دليل هاته المحاولة المتواضعة،قد يعتبرها البعض محاولة إبراز الذات،وقد يعتبرها البعض آخر مجرد كلام ومضيعة الوقت،الكل حر في آرائه،لكن تبقى هذه الأسطر محاولة فهم أحد النظريات.
سأترك جانبا قضية الألوهية وما دار حولها من جدل طويل ومتشعب،وسوف أحاول أن أبادلكم أفكار وهي محاولة فهم وتحليل الصلة التي تربط بين الإلاه والعالم،فقد اختلفت الآراء وتجادلت فيما بينها سواء كانت فلسفية أو فرقة صوفية أو كلامية،من خلال الوقوف على أحد النظريات التي طرحت في ساحة الفكرية ألا هي ‘'نظرية الفيض'' والتي ترجع جذورها إلى الفلسفة اليونانية والمنسوبة لأفلوطين (ملاحظة للذين ليس لهم دراية بالموضوع أفلوطين،ليس هو أفلاطون).
بعدما أردت أن أبحث وأقرأ حول طوائف إسلامية والفِرق الكلامية والفلسفة الإسلامية، كي أعرف أمور تتعلق بمصادر الفكر الإسلامي بصفة عامة،صادفت العديد من الأفكار والأقوال والجدل في المسائل الدينية سوف أخصص لها أسطر في وقت لاحق وما أعجبني الصراعات التي دارت بين الفرق الكلامية وبالأخص آراء وفكر المعتزلة،المهم هذا ليس موضوع الذي أردت أن أتحدث عنه الآن،بل أنا هنا لكي أتحدث عن قضية جاءت في الفكر اليوناني وكما هو موثق أن من بين مصادر الفكر الإسلامي ألا هو الفكر اليوناني،وتبلورت هذه القضية لتصل إلى مفكرين إسلاميين وأخص بذكر 'الفارابي '' وتفسيراته لنظرية '' الفيض ''.
بكل صراحة الإنسان لا يمكنه أن يعلم كل ما يدور في هذا الوجود من مواضيع فلسفية اجتماعية سياسية..وأنا بدوري لم أكن أعلم بهاته النظرية،حتى بحث عنها بحثاً متواضعاً وقرأت عنها، وأصابتني بدوار رأس لما تعقد أفكارها إلى أني حاولت أن أفهم وأنا هنا كي أتقاسم معكم هاته الأفكار.
يقوم تصور الفارابي تصوره لله على دعامتين أساسيتين وهي:
ـــــ واجب الوجود
ـــــ ممكن الوجود
أولاً:واجب الوجود.
هو ما تقتضي ذاته أن يكون موجوداً،أي بمعنى لا يحتاج إلى قوة خارجية أو علة لأن يوجد فهو المصدر الأول لوجود العلل الأخرى ويجسده الفارابي الواجب الأول وهو '' الله '' ،فواجب الوجود ضروري للموجودات جميعاً ولا يمكنه أن تكون تلك الموجودات إلا به(1) الموجود الأول ( الله)هو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها، وهو بريء من جميع أنحاء النقص. وكل ما سواه فليس يخلو من أن يكون فيه شيء من أنحاء النقص، إما واحدا وإما أكثر من واحد. وأما الأول فهو خلو من أنحائها كلها، فوجوده أفضل الوجود، وأقدم الوجود، ولا يمكن أن يكون وجود أفضل ولا أقدم من وجوده.(2) إذ يعتبر '' الفارابي '' في هذا الطرح أن الواجب الوجود أي ‘'الله ‘'،ولما كان الممكن أي لابد أن تتقدم عليه علة تخرجه إلى الوجود،أي بتفسير أدق لكل علة معلول،فالعلة هي القوة الفاعلة والمؤثرة في غيرها(الله)، والمعلول هو الأثر المترتب على تلك العلة والناتج عنها(الوجود)،و لكنّ العلّه يمكن أن لا تكون مستغنية بصوره مطلقه، بل هي بدورها محتاجه و معلوله لموجود آخر،ولما كانت العلة تتسلسل إلى غير نهاية،كان لابد من وصول إلى '' موجود الوجوب '' الذي تحدث عنه الفارابي،و سلسله العلل لابدّ أن تنتهي إلي موجود لا يكون في نفسه معلولاً، و كما يصطلحون عليه، بأنّ تسلسل العلل إلي ما لا نهاية، محال. و علي ضوء ذلك يثبت وجود '' واجب الموجود '' ، و أنه العلّه الأولي الموجودة بذاتها، و لا يحتاج في وجوده إلي موجود آخر،وهو علة لكل الموجودات،ولا يعتريه التغير وهو ''الله '' حسب الفارابي.
تانياً :ممكن الوجود.
يمكن القول أن ممكن الوجود هو الموجودات لم تخلق بعد؛ولكن لديها قابلية بأن توجد،هذا ما يذهب إليه الفارابي بقوله (والأول هو الذي عنه وجد. ومتى وجد للأول الوجود الذي هو له)، ''أي هنا يتحدث عن الواجب الوجوب الذي تحدثنا عنه قبل ويجسده في '' الله '' ،تم يسترسل حديثه بالقول (ووجود ما يوجد عنه إنما هو على جهة فيض وجوده لوجود شيء آخر، وعلى أن وجود غيره فائض عن وجوده هو. فعلى هذه الجهة لا يكون وجود ما يوجد عنه سببا له يوجه من الوجوه، ولا على أنه غاية لوجود)(3) ،فإذا أردنا نحلل القول فيمكن القول أن كل الموجودات في الكون من سماء و أرض و بحار و أشجار والإنسان و حيوانات و غيرها ، تسمى " ممكنة الوجود" لأن وجودها ممكن بمعنى أنه ليس مستحيلا ، كما أن عدمها ممكن ، لأن وجودها ليس واجبا على واجب الوجود أي العلة الأولى، (الله) حسب الفارابي، فممكن الوجود هو عبارة عن الموجود الذي لا يوجد بذاته،وإنما احتاج إلى وجوده موجود آخر أي العلة الأولى،أو بمفهوم أدق القوة الخارجية لوجود هذا الموجود.
إذن نستنتج هنا أن ''الفارابي'' انطلق من دعامتين أساسيتين في تفسير ''نظرية الفيض'' وهي ''واجب الوجود '' ،و''ممكن الوجود ''، و سنحاول أن نتطرق إليها، لكن قبل أن نطرح إشكال الذي من خلاله يخول لنا الغوص في أفكار هاته النظرية، وهو كيف أتى هذا الوجود المتعدد وبه الكثرة من واحد ''الله' '؟
حاول الفارابي الإجابة عن هذا الإشكال بتفصيل لنظرية الفيض المنسوبة لأفلوطين،إذ صاغ الفارابي نظرية الفيض صياغة جديدة، عقلانية دينية، مع المحافظة على أهم مبادئها، إذ أصبحت العلاقة بين الواحد والكثرة و ، بالنسبة إلى الفارابي نقطة الدعامة الأولى للبناء الفلسفي بأكمله. إن الله (واجب الوجود) نشأ عنه فيض،وهذا الفيض هو العالم (الإمكان)، و الموجودات التي فاضت عن الله تريد العودة إلى مصدرها الأصلي، فهي في تنازل مستمر من حيث درجة الكمال، فكل موجود أقل مما فوقه، و أفضل مما تحته، وهكذا يستمر الكمال في التناقص حتى يتلاشى في نهاية المطاف عندما يصل الفيض عند المادة. (4)
يرى الفارابي علم الله ذاته ففاض عنه عقل أول،وهو بسيط واحد في جوهره، غير أن كثرة حدثت فيه بالعرض،وهذه الكثرة منه لا من الله.
إن هذا العقل الأول يعقل واجب الوجود (=الله) أي ''الممكن الوجود '' الأول(الموجودات) الذي خلقه ''واجب الوجود ''الله ،أو ( بلغة مبسطة بما أنه العقل الأول ينتج عن هذا الموجود عقل ثاني أي عقل الأول ما بعد العدم نتج لنا،الآن عقل ثاني أصبح لنا ''ممكن الوجود '' (العقل الأول والعقل الثاني)ومن حيث أنه يعقل ذاته،جرم فلكي نفسا وجسما. (هذا العقل عبارة عن جرم فلكي)ومن هذا العقل الثاني يصدر عقل آخر ثالث،وفلك آخر تحت الفلك الأعلى...(العقل الثالث عبارة عن فلك).. وهكذا يصدر من كل عقل،عقل جديد وجرم سماوي،مادة وصورة (= جسما ونفسا) إلى العقل العاشر،أو العقل الفعال الذي يبدع عالمنا الأرضي ، وهو يدرك العقل الأول فتفيض عنه النفوس البشرية، ويدرك كل العقول قبله فتفيض صور الأشياء، وعند إدراكه لذاته تفيض عنه العناصر التي تنشأ عنها الأشياء.
وترتيب ذلك كما يلي:
ــــــ عن الواجب (=الله) يصدر عقل أول.
ــــــ عن عقل الأول يصدر عقل ثاني وكرة السماء.
ــــــ عن عقل الثاني يصدر عقل ثالث وكرة وكواكب السماء.
ــــــ عن عقل الثالث يصدر عقل رابع وكرة وزحل.
ــــــ عن عقل الرابع يصدر عقل خامس وكرة ومشتري.
ــــــ عن عقل الخامس يصدر عقل سادس وكرة المريخ.
ــــــ عن عقل السادس يصدر عقل سابع وكرة شمس.
ــــــ عن عقل السابع يصدر عقل ثامن وكرة الزهرة.
ــــــ عن عقل الثامن يصدر عقل تاسع وكرة عطارد.
ــــــ عن عقل التاسع يصدر عقل العاشر (أو العقل الفعال) ومعه كرة القمر،وهذا العقل آخر العقول المفارقة،كما أن كرة القمر هي آخر الأجرام السماوية التي هي موجودات كاملة مطلقة،لا تعرف الكون والفساد ،أما الموجودات تحث القمر فليست كاملة،وبالتالي فهي وحدها عالم الكون الفساد.يقول الفارابي ''العقل الفعال فعله العناية بالحيوان الناطق والتماس تبليغه أقصى مراتب الكمال الذي للإنسان أن يبلغه وهو السعادة القصوى؛وذلك أن يصير الإنسان إلى العقل الفعال ''(5)
إن قول الفارابي بالفيض يجعلنا نتساءل هل يعتبر الفارابي العالم قديم أم محدث؟وهل إيجاده عن عدم محض كما ينص على ذلك الدين الإسلامي ؟
يتحدث الفارابي مع شيء من الغموض في محاولة مزج بين نظرية أرسطو في العقول الفلكية،والمادة والصورة،وفكرة الفيض عند أفلوطين ،فيرى العالم محدث لكن بدون سبق الزمن،أي بمعنى أنه قديم بالزمان،ولا كنه حادث في الوقوع،وإذا حاولنا بسط الفكرة فيمكن القول أن العالم أي ممكن الوجود (دائما نرجع إلى تقسيم)،هو قديم بالزمان أي أنه الموجود الذي لوجوده منطلق وهو واجب الوجود (الله)،وهو محدث أي حسب معجم لسان العرب الحَدِيثُ نقيضُ القديم والحُدُوث نقيضُ القُدْمةِ حَدَثَ الشيءُ يَحْدُثُ حُدُوثاً وحَداثةً،ولا يمكن أن يحدث الشيء من غيره دون حادثه (العلة الأولى)كما أخبرنا أنفاً (6).
إن الإسلاميين أرادوا أن يتهربوا من القول بقدم العالم على طريقة أرسطو وكذلك لم يكن في استطاعتهم عقلياًّ البرهنة على حدوث العالم ولهذا فقد اتجهوا إلى فكرة وسط بين الحدوث و القدم وهى فكرة الفيض أو الصدور والتواجد خارج الزمان ، ففعل الصدور ضروري قديم إذا مادام الواحد جواداً فياضاً فالصدور كذلك يكون دائماً مرتبطاً بهذه الخصوبة الغنية.(7)
وسؤال مطروح هنا هو كيف تكون هذا العالم الأرضي؟
يرى الفارابي أن العقل الفعال (=العقل العاشر) تصدر عنه أجسام الأرضية بواسطة الأفلاك:فمنه تفيض الصورة والهيولى،أي المادة،ومن امتزاجهما تتكون العناصر الأربعة (=الإسطقسات):الماء ــــــ الهواء ــــــ النار ــــــ والتراب،وهذه العناصر تتمازج وتتفاعل بتأثير الكواكب وحركتها، وبإشراف العقل الفعال.
وهكذا كلما تهيأ مزاج صالح،حصل فيه استعداد، فيفيض عليه العقل الفعال صورة تكون له بمثابة النفس ولذلك سمى هذا العقل (واهب الصورة)
بهذا الشكل تكونت المعادن والنباتات والحيوان والإنسان،فالموجودات في عالم السفلي،عالمنا الأرضي،تتدرج من الأدنى إلى الأعلى:من الجماد... إلى الإنسان.أما في العالم العلوي،عالم السموات والأفلاك فإن الموجودات فيه تندرج من الأعلى إلى الأدنى،من العقل الأول...إلى العقل العاشر وهو أقل العقول المفارقة مرتبة.
وبما أن الموجودات حسب الفارابي وجدت بالفيض،وبما أن أول الفيض حسب فرابي فيض من الله وهو ناتج عن علم الله،وعلم الله ضروري وقديم، فإن فيض العالم عنه فيض ضروري وقديم عنه.(8)
في ختام هذه الأسطر يمكن القول أن بعد المفكرين الإسلاميين يرجحون فشل الفارابي في محاولته التوفيقية بين ما أتى به الفكر اليوناني وبين طبيعة الفكر الإسلامي،فهذا الأخير طبيعته الميتافيزيقيا الإسلامية مؤمنة وهادفة،تتبع المنبع الأول وهو القرآن وسنة النبي،ولا تسمح بفصح الخوض في تصورات فوق طاقة العقل الإنساني وهو ما جعل الفكر الإسلامي يقف عقله إذا حق القول الآن في القرن الواحد العشرين من إعطاء أفكار جديدة كما كانت سائدة في القرون السابقة من شعر وأدب ونظريات فلكية،والعكس بالنسبة لميتافيزيقيا اليونانية رغم أن الثرات اليوناني يعتبر من مصادر تشكل الفكر الإسلامي وبالتالي كان لها دور تشكيل وفهم الميتافيزيقيا الإسلامية. قد تبدو لنا هاته النظرية نحن أبناء القرن الواحد والعشرين،غريبة كل الغرابة ومثيرة للعجب،غير أنه اجتهاد وبحث مكتف ننوه له بطبع استنادا للأفكار فلاسفة اليونان،يجب أن لا ننسى أن علماء تلك الحقبة كانوا يعتقدون أن الأرض مركز العالم،وأن الفكر القديم كان يتخيل عالما علويا تسكنه العقول المفارقة.
ـــــــــــــــــــــ
بقلم:سفيان الرتبي.
ــــــــــــــــ
المصادر:
(1) منذر الكوثر "فلسفة الفارابي،الله الوجود الإنسان"،دار الحكمة لندن،ط1، 2002.
(2) أبوناصر الفرابي، "آراء أهل المدينة الفاضلة"،دار المشرق،1987.
(3) أبو ناصر الفرابي، "آراء أهل المدينة الفاضلة"،المرجع السابق.
(4) أ.حميدي بوجلطية خيرة ،"الماهية و الوجود عند الفارابي"،كلية العلوم الإنسانية و الإجتماعيةجامعة حسيبة بن بوعلي ألشلف.
(5) أبو نصر الفرابي ، "السياسة المدنية الملقب بمبادئ الموجودات"،وزارات الثرات القومي والثقافات،1964.
(6) "لسان العرب"،المجلد الثاني،باب الحاء،دار صادر بيروت.
(7) د. محمد علي أبو ريان، "تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام"،دار المعرفة الجامعية،1995، ط2.
(8) كتاب" الفكر الإسلامي ودراسة المؤلفات"،محمد عابد الجابري والأخرون،1967،ص116
ملحوظة:ليس من الضروري أن تعبر الأفكار بهذا المقال عن رأي الكاتب.
------------------------------------------------------------ أظهر الكل ..
إنّ اختلاف المذاهب الفكريّة والفلسفيّة منذ الإغريق وحتى العصور الحديثة يؤدي إلى الاختلاف في النظر المفاهيم المتنوّعة والتي منها مفهومي الرغبة و السعادة، فمنهم من يروها في الذات الحسيّة، والبعض يروها في التفكير والوعي العقليّ، ومنهم من يجدهم في الحس والفكر معاً، إذن فإن كل فصل إنساني يكون موجها بغاية تحصيل السعادة وهذا ما سنحاول أن نبرزه في هذا المقال المتواضع الذي من خلاله سنتطرق إلى آراء بعض الفلسفة العظماء في نظرهم إلى مفهوم الرغبة و السعادة والعلاقة التي تجمع ...
إنّ اختلاف المذاهب الفكريّة والفلسفيّة منذ الإغريق وحتى العصور الحديثة يؤدي إلى الاختلاف في النظر المفاهيم المتنوّعة والتي منها مفهومي الرغبة و السعادة، فمنهم من يروها في الذات الحسيّة، والبعض يروها في التفكير والوعي العقليّ، ومنهم من يجدهم في الحس والفكر معاً، إذن فإن كل فصل إنساني يكون موجها بغاية تحصيل السعادة وهذا ما سنحاول أن نبرزه في هذا المقال المتواضع الذي من خلاله سنتطرق إلى آراء بعض الفلسفة العظماء في نظرهم إلى مفهوم الرغبة و السعادة والعلاقة التي تجمع بينهما،ومن هذا المنطلق،يحق لنا أن نطرح الإشكال التالي: كيف تتحقق السعادة الإنسان، هل من خلال إشباع رغباته أم انه يمكن أن يكون سعيدا بدون إشباعها ؟
إن الإنسان بفطرته إنسان راغب، وتُشكّل الرغبة لديه خاصيّة جوهريّة فيه، فتُعرّف الرغبة على أنّها ميل الشخص نحو الحصول على أمرٍ يفتقده الفرد في وضعه الراهن، أو الرّغبة في تخلّصه من أمرٍ يمتلكه، فيثير هذا التعريف للرغبة عدداً من التساؤلات الإشكاليّة، من ضمنها تلك التساؤلات التي تتعلّق بعلاقة الرغبة كمفهومٍ مع عددٍ من المفاهيم الأخرى كالسعادة،إذ يختلف الناس في تمثلهم لهذه الأخيرة بين من يقصرها على حسن العيش، من حياة مرفهة، وامتلاك للأموال والثروات، وتلبية كاملة للرغبات، وتشيع لها، وتحقيق للذة والمتعة في مختلف أشكالها وتجلياتها، وهناك من يقصرها على حسن السيرة من حياة كريمة ومعتدلة ومنسجمة، وقد نجد الاختلاف بين الأفراد، فالمريض يرى السعادة في الصحة، والفقير يراها في المال، والوحيد يراها في الأنس والصداقة.أول ما يبرز هنا ، هو تلك الرغبة في السعادة لدى كل واحد منا ، ليس فقط لأن الرغبة تشكل ماهية الإنسان كما يقول اسبينوزا ، بل لأن السعادة هي ما نرغب فيه بإطلاق كما أكد أرسطو في كتابه « الأخلاق إلى نيقوماخوس « . لكن كل رغبة هي تعبير عن فقدان ، وحين يكون المرء فاقدا للشيء فإنه يشعر بالألم .
لقد دلت الرغبة في دلالتها المعجمية، على الحرص والطمع في الشيء والإرادة، كما تحيل إلى الترك والزهد في الشيء، أو الطموح والفضول، إن تعدد هذه المفاهيم الدالة على الرغبة يؤكد التباس المفهوم وتشعب معانيه، أما الدلالة الفلسفية عند لالاند في معجمه الفلسفي فمضمونها أن الرغبة ميل عفوي نحو غاية معلومة أو متخيلة،بينما السعادة،هي حالة رضى تام تستأثر بمجامع الوعي.
لقد تطرق إلى هذا الإشكال العديد من الفلاسفة،ومع تشبع الأراء والأفكار حول العلاقة بين الرغبة والسعادة،برزت لنا مواقف من بينها إسلامية،وفي هذا صدد،لا يمكننا أن نمر مرور الكرام دون استحضار الفيلسوف اليوناني '' أبيقور ''،فد حدد غاية الحياة السعيدة هي اللذة فهي الخير الأسمى وهي أصل كل فعل أخلاقي يتجه نحو تحصيل اللذة وتجنب الألم وليس إتباع الخير لأجل الخير أو فضيلة لأجل الفضيلة سوى وهم إذ أن الإنسان حسب ابيقور هو جسد ونفس وان سعادته تكمن في تحقيق الخير الملائم لطبيعة كليهما .والخير الملائم لطبيعة الجسد هو اللذة أما الخير الملائم لطبيعة النفس فهي الطمأنينة.
وفي نفس العصر ألا هو اليوناني يرى الفيلسوف '' أرسطو '' أنَّ السعادة ترتبط بتحقيق غاية الخير، حيثُ تتحدد باللذة، وهي الفضيلة التي تقود الفرد إلى السَّعادة بقوىً إراديّة من خلال إتباع الاختيار الذي يدفعه إلى التأمل، وأكد أرسطو أن السعادة الحقيقية تتحول إلى العشق الميتافيزيقي وإلى السعادة الفكريّة والروحيّة، ويرى بأنّ السعادة عبارة عن مسألة جماعيّة وليست فرديّة، ولكل شيء غاية، وغاية السياسة هي السعادة، ويقترح منهجاً تركيبيّاً نسبياً ومطلقاً يؤدي للوصول إلى الخير الأسمى والأكبر؛ لذلك يصنف أرسطو السعادة إلى أنواع وهي: السعادة المرتبطة باللذة الحسيّة وتكون في نظره عند السواد الأعظم من الإنسان الأكثر غلظة وقساوة، والنوع الآخر هو السعادة المرتبطة بالشرف والتشريفات وتوجد عند الطائفة السياسيّة، والنوع الأخير هو الذي يقيم السعادة على أساس من التأمل، كما ويرى أرسطو صعوبة الإقرار بمدى سعادة الفرد بعد موته، لأنّ ذريته وسلالته قد تشقى بعد موته؛ لذا فالسعادة مسألة حكمة وتريّث، ومسألة عقل وفكر خاصة في الجانب المتعقّل من الفرد.،وقد نجد رأي الفيلسوف الفرنسي '' ررنيه ديكارت '' يتماشى مع طرح اليونانيين إذ يرى في هذا الصدد : أن الرغبة بالفعل تحقق السعادة للإنسان، ذلك أن الطبيعة الإنسانية مهيأة للتمتع بما هو ملذ وممتع، وهذا يخلق للذات نوعا من البهجة، وتكون هذه البهجة في أرقى صورها بالنسبة للمحب، الذي يحب شخصا ما شعر نحوه بكل الميل.
لكل إنسان القدرة على فهم نفسه ولو بشكل جزئي. حينما يتحكم العقل في الرغبات والشهوات فإنه يحد من الإفراط فيها. فليس هناك سوى شهوة واحدة يكون الإنسان بموجبها إما فاعلا متعقلا وأخلاقيا، أو منفعلا متهورا ومندفعا ومزهوا بنفسه،هذا ما جعل الفيلسوف '' سبيينوزا '' يرى أن ليس للإنسان من قدرة سوى الذهن والعقل من أجل فهم رغباته وانفعالاته وعواطفه والتحكم فيها. فالإنسان إما منفعلا خاضعا لشهواته ومزهوا بنفسه، وفي ذلك شقاؤه، وإما فاعلا متعقلا ومسيطرا على انفعالاته ورغباته، وهذه هي الصبغة الأخلاقية التي تحقق لصاحبها الارتياح والسكينة والسعادة.
وهذا ما نجده عندا الفيلسوف الروماني '' سنكا '' إذ يقدم مجموعة من الشروط الأساسية لتحقيق السعادة، والمتمثلة أساسا في حسن استخدام العقل من أجل إدراك الحقيقة والتصرف وفقا لمبادئ العقل الأخلاقي. كما تتمثل السعادة عنده في السيطرة على الرغبات والتحكم في الملذات الحسية، وعدم المبالغة في التفكير في المستقبل،إذ يستنكر أن يظل الإنسان مسيطرا على نفسه، متعقلا ورزينا، وهو واقع تحت سيطرة أحاسيس الجسد. ومعنى ذلك أن '' سنكا '' يريد أن يثبت أن الاستقامة والرزانة تتجليان في سيطرة العقل على أحاسيس الجسد وانفعالاته.
لم تخلوا الفلسفة الإسلامية من آراء حول الرغبة والسعادة، فنجد الفيلسوف ''' ابن مسكويه ''' يهاجم أولئك الأبيقوريون أي الفلسفة الابيقورية التي جعلت اللذة في منزلة الحكمة، وكذلك كل من يدافع على كون السعادة هي اللذة –الذين يحصلون السعادة في الرغبات البدنية، فاعتبرهم من العامة الرعاع، وجهال الناس السقاط، وفي هذا الصدد يقول ابن مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" (... وظنوا أن جميع قواه الأخرى إنما ركبت فيه من أجل هذه اللذات، والتوصل إليها، وأن النفس الشريفة التي سميناها ناطقة، إنما وهيت له ليرتب بها الأفعال ويميزها، ثم يوجهها نحو هذه اللذات، لتكون الغاية الأخيرة هي حصولها له على النهاية والغاية الجسمانية، وهذا هو رأي الجمهور من العامة الرعاع، وجهال الناس والسقاط ) .
يمكن القول بالتالي أن الاختلاف بين المواقف له منطلقات ونتائج، فالمنطلقات مختلفة في اعتبار الحقيقة الإنسانية، أي الطبيعة الإنسانية، والنتائج بالتالي ستكون متناقضة ومتواجهة وهذا ما عرضناه سلفا. للتفكير بالتالي في السعادة والرغبة بشكل سليم يجب توضيح طبيعة الوجود الإنساني. وفي هذا الإطار سيسهم مفهوم المجتمع في إبراز الطبيعة الاجتماعية بعدما تبين لنا الطبيعة الفردية التي تتميز أساسا بالوعي والرغبة.
أظهر الكل ..صرت أنسى كثيرا...
على أعتاب الخمسين، بدأت الحياة تأخذ شكلها الحقيقيّ والنّهائيّ: ثقب أسود ضخم يبتلع كلّ شيء، لا يقترب ولا يبتعد، يأتيه كلّ شيء وينزلق بكلّ صمت وهدوء في جوفه البارد المظلم، الأحلام الصّغيرة والكبيرة، النّزوات والشّهوات المكتومة، حكايات الطّفولة، حماقات الشّباب، الأحداث والشّخوص والأزمنة والأماكن، كلّ شيء، يأخذ مكانه النّهائيّ رويدا رويدا، وبلا ضجيج، في قاع النّسيان.
أنظر خلفي، فلا أرى سوى بقع من الزّيت العائم، في بحيرة كبيرة، لا تتجمّع، ولا تتلاشى تماما، حياتي مجرّد ...
صرت أنسى كثيرا...
على أعتاب الخمسين، بدأت الحياة تأخذ شكلها الحقيقيّ والنّهائيّ: ثقب أسود ضخم يبتلع كلّ شيء، لا يقترب ولا يبتعد، يأتيه كلّ شيء وينزلق بكلّ صمت وهدوء في جوفه البارد المظلم، الأحلام الصّغيرة والكبيرة، النّزوات والشّهوات المكتومة، حكايات الطّفولة، حماقات الشّباب، الأحداث والشّخوص والأزمنة والأماكن، كلّ شيء، يأخذ مكانه النّهائيّ رويدا رويدا، وبلا ضجيج، في قاع النّسيان.
أنظر خلفي، فلا أرى سوى بقع من الزّيت العائم، في بحيرة كبيرة، لا تتجمّع، ولا تتلاشى تماما، حياتي مجرّد حفنة من الماء، أو من الرّمل ... صرت أراها كصرّة جدّتي الفقيرة، كلّ ما فيها بطاقة التّعريف المهترئة، ودفتر العلاج القديم، ودريهمات شحيحة
أصارع الوقت، وأسابقه كي أكتب أشياء كثيرة، قبل أن يبتلعها الثّقب الأسود، حياتي ليست تراجيديا، ولم يكن لها ذلك الإيقاع الملحميّ الصّاخب، كان يكفيني فقط أن تنتبه إليها الطّيور وزهرات اللّيل الخجولة، لم أنجح غالبا في أن أجعلها كذلك، ولم أعد أطمع اليوم، في أكثر من أن أرويها، بشيء من التّفصيل... لن يكون من المنصف أبدا ألاّ يبقى منها سوى عناوين، وتواريخ، وأقوال وأفعال مرصوصة في قائمة طويلة، في انتظار العرض الأخير
الزّمن يعرف كيف يكسب الجولة تلو الجولة، بكلّ مكر وبرود، يشدّني إلى كرسيّ أمام الشّاشة، مثلما تفعل الأمّ بطفلها الصّغير، يتركني أتابع الصّور والألوان والأصوات ذاهلا شاردا، لساعات وساعات، في حين يتفرّغ هو ليرتّب حياتي كما يشاء، يكنس ما تبعثر، يعلّق ما ابتلّ من الأحلام حتّى تنشف تماما، يجمع كلّ لعبي وأشواقي وأشيائي الصّغيرة ويضعها في صندوق يغلقه بإحكام، ويقذفه أعلى الخزانة...
لم يعد الأمر يتعلّق فقط بالتّفاصيل الصّغيرة. في البداية كان الأمر كذلك، ثمّ صرت أنسى أحداثا كثيرة هامّة، ثمّ تلاشت حتّى المحطّات الكبرى في حياتي، صارت زوجتي تحدّثني عنها، كأنّني لم أعشها، أو كأنّها تحدّثني عن إنسان آخر، لم أصادفه يوما، أو عن حياة أخرى، مرّت بجانبي ولم أشعر بها...
بعد سنوات قليلة، لن يكون معي شيء كثير أتذكّره، سيكون كلّ شيء كأنّي لم أعشه، لن أتذكّر الّذين أحببتهم ولا الّذين كرهتهم، ولن أتذكّر لماذا كرهتهم، وهل كان عليّ فعلا أن أحبّهم... أتساءل: عمّ سأحاسب إذا كنت سأنسى تماما كلّ شيء؟ حياتي مثل سيجارة أدخّنها في الرّيح، أيّامها تتطاير كالرّماد وتتلاشى مع الدّخان، ولا أستشعر منها سوى تلك الجمرة، الّتي تتحوّل بدورها، بعد ثوان... إلى رماد ودخان.
كثيرا ما تنصحني زوجتي بأن أذهب إلى الطّبيب... يضحكني الأمر دائما بقدر ما يبكيني ويخيفني مجرّد التّفكير في ذلك. إذا فعلتها، فهذا يعني أنّني فقدت نهائيّا، ذلك الوهم الّذي مازال يشدّني، كيف أقنع نفسي بعد ذلك، بأنّ كلّ شيء مازال على ما يرام!
الأطبّاء لا يملكون أن يعطونا نكهة الوقت، نحن ننسى لأنّنا نتعب من حمل الذّكريات، الأطبّاء يعالجون المرضى، وأنا لست مريضا، أنا فقط متعب وحزين. تثقلني الكلمات الخاسرة، وكثير من أشياء العمر المتفحّمة في زوايا الذّاكرة. أحيانا أغافل نفسي، وأفرغ نصف الحمولة في أيّة حفرة تعترضني وأمضي، ثمّ أفرغ نصفها الآخر غير بعيد، وأتظاهر بأنّني نسيت. نحن ننسى أحيانا بملء إرادتنا وبمحض اختيارنا...
أسوأ ما في الأمر، أنّني لم أعد أستطيع أن أميّز بين صور بناتي، في صغرهنّ... وأنا الّذي التقطتها لهنّ، وادّخرتها لمثل هذه الأيّام، كي لا يهزمني النّسيان. ربّما كنّ متشابهات في الصّغر، لكنّ هذا لا يهوّن من الأمر شيئا. تسعفني زوجتي بنوع من الشّفقة والعتاب، ثمّ تستدرك بأنّ الجميع ينسون مثل هذه الأشياء، لكنّ الجرح يزداد اتّساعا كلّ يوم، ويمتلئ بالحصى...
ليس هيّنا أن تنسى أجمل ما عشت من اللّحظات، ولا حتّى أسوأ ما عشت... حتّى ذكرياتنا الأليمة سنحتاج إليها يوما، ونحن نحاول أن نسدّ الثّقوب الكثيرة في سقف الذّاكرة، أو في قاعها، لا شيء يولد، ولا شيء يتحوّل... كلّ شيء يضيع!
لا أعرف إن كان عليّ أن أفرح، أو أحزن، وأنا أنسى كلّ شيء يوما بعد يوم، وأنا أمضي إلى ذلك الثّقب الأسود، وأقترب منه رويدا رويدا. ليس الأمر سيّئا بالكامل على ما أعتقد، سيكون بإمكاني في النّهاية أن أتخفّف من أعباء كثيرة كانت فوق الحمولة، تفاصيل كثيرة ظلّت تخزني دائما في القلب مثل الدّبابيس، أحلام عظيمة تحوّلت إلى أوهام وخيبات، خيانات عابرة، أشخاص كثيرين تحوّلوا إلى أشباح وجماجم مفرغة وعناكب سوداء عشّشت في فمي وفي عينيّ وفي رئتيّ... قد لا يكون الأمر سيّئا بالكامل...
ما يحزنني قليلا، هو أنّني سوف أنسى الكثير من الحكايات الصّغيرة، تلك الحكايات الّتي كانت بحجم الحياة نفسها، لكنّها اليوم لم تعد تصلح للنّشر، ولن أتجرّأ يوما على كتابتها، قبل أن يبتلعها الثقب الأسود.
أظهر الكل ..ذلك الضجيج الذي لا ينتهي، تعابير وملابس وقناعات "الأنا" وهي وليدة التلافيف الدماغية العليا، تلك "الأنا" التي تسمي نفسها فلان ابن فلان او فلانة بنت فلان ، اسكن في مكان كذا ، جنسيتي كذا ، امارس مهنة كذا ، كل هذه الادوار هي ادوار "الأنا".
لكن هذه "الأنا" هي ليست أنا ببساطة ، لأنها تعيش على الأفكار فقط ، اضافة الى انها تعيش في الزمن الماضي او المستقبلي وكلاهما لا علاقة لهما بالوجود والذي هو يحدث " الآن" .
ومن هنا فإن مقولة " انا افكر اذن انا موجود " للفيلسوف رينيه ديكارت هي خاطئة تما ...
ذلك الضجيج الذي لا ينتهي، تعابير وملابس وقناعات "الأنا" وهي وليدة التلافيف الدماغية العليا، تلك "الأنا" التي تسمي نفسها فلان ابن فلان او فلانة بنت فلان ، اسكن في مكان كذا ، جنسيتي كذا ، امارس مهنة كذا ، كل هذه الادوار هي ادوار "الأنا".
لكن هذه "الأنا" هي ليست أنا ببساطة ، لأنها تعيش على الأفكار فقط ، اضافة الى انها تعيش في الزمن الماضي او المستقبلي وكلاهما لا علاقة لهما بالوجود والذي هو يحدث " الآن" .
ومن هنا فإن مقولة " انا افكر اذن انا موجود " للفيلسوف رينيه ديكارت هي خاطئة تماما.
فالتفكير والوجود شيئين مختلفين تماما ، لعلك لم تقتنع لذلك واصل القراءة !!!
لن اعرف الوجود بالطبع لأنه لايمكن تعريفه ومن الافضل استخدام اسلوب المقاربة وهي كالتالي:
اجلس بإسترخاء تام ، ثم انظر الى نقطة ما في الجدار بطريقة السرحان ، ثم استنشق الهواء بحيث تعمل على تمدد البطن ، ولا تتنفس من الصدر فقط ، استنشق نفسا عميقا ثم امسكه لبرهة ثم ازفر الهواء ببطء ضعف مدة الاستنشاق ، ثم اغلق عينيك ، واترك العنان لكل فكرة تمر بخاطرك لا تتبعها لا تحاول تحليلها لا تنساق ورائها فقط اتركها ، ستحاول الافكار ان تستحوذ عليك لا تقاومها فقط دعها تذهب وركز على تنفسك برقة ولطف ، بعد فترة من الزمن ستتوقف عن التفكير تماما ، سيسود صمت مطبق ، انت الآن في اللحظة الحاضرة فقط ، هذا هو الوجود وهذا هو انت في الحقيقة .
سترى ان الافكار مجرد اوراق اشجار ميتة تسبح في نهر الزمن بينما انت تراقبها وهي تأتي وتذهب دون ان تلتقطها وتتفحصها ثم بعد فترة ستختفي كل الاوراق وسيبدو لك النهر وكأنه توقف فلا يوجد فوقه شئ يبين لك هل يجري ام هو ساكن .
هذه اللحظة هي الوجود ، هي انت ، هي الحياة .
انت لست فلان ، لست من تملك الجنسية كذا ، لست من تقوم بالوظيفة الأب والأبن و غيرها من الادوار فهي كلها مجرد افكار فقط وانت لست اياً منها .
لا يمكنك ان تسترجع الماضي او تتوقع المستقبل الا في اللحظة الحاضرة فقط ، الماضي مجرد ذكرى فقط والمستقبل لن يأتي في الحقيقة ابدا انه ليس سوى تجدد للحظة الحاضرة فقط ، الافكار هي التي تأخذك الى وهم المستقبل الذي لن يأتي ابدا ، خلايا الجسد تتجدد ومعها يتجدد الحاضر واذا قارنت نفسك الآن وقبل عشر سنوات ستكتشف ان جسدك قد مات منذ فترة فكل الخلايا تجددت ولم يعد جسدك الآن هو نفسه جسدك قبل عشر سنوات .
كل شئ تغير صحيح هل تحس بذلك الآن ؟ ولكن هناك شئ لم يتغير في داخلك ولذلك تحس بأنك كبرت ولا تحس بأنك تجددت ، افكارك تغيرت ولكن تيار الوعي والذي تدرك بواسطته الافكار وتدرك عن طريقه انك تكبر ولا تتجدد هو الذي لم يتغير وهذا التيار هو ذاتك .
مفتاح السيطرة هو في فصل تيار الوعي عن الافكار وجعله فوقها ومهيمنا عليها ، ان التعليم والتنشئه التي تدربنا وتربينا على ان تسيرنا الافكار وتصبح هي التي تهيمن على تيار الوعي بدل العكس هو السبب الذي يجعل الانسان كائنا منحطا عدوانيا متعجرفا انانيا خالي من الحكمة .
الناس تبحث عن التغيير هناك في الخارج ، بينما التغيير يجب ان يكون ثورة في داخل العقل لا في خارجه ، لان الناس الذين قاموا بالثورة والتغيير سرعان ما تبنوا نفس الاساليب والانماط التي ثاروا ضدها ومن اجل تغييرها .
اذا سألتني كيف اكون مسترخيا ؟ سأجيب انظر الى قطة مستلقية بهدوء وعيناها نصف مغمضة .
أظهر الكل ..عندما كتب مارشل ماكلوهان،أول من آستعمل عبارة أن العالم أصبح قرية صغيرة، " الوسيلة هي الرسالة" "the medieum is the messageلم يخطر بباله أن هذا العالم سيصير في يوم من الأيام حظيرة صغيرة متحكم فيها من طرف راعي دائم الوجود لكنه غير مرأي !
فمقولة "الوسيلة هي الرسالة "،والتي يمكن أن نفهم منها أنه بالإضافة إلى سبر أغوار الرسالة يجب أن نركز جهدنا على فهم الوسيلة ومميزاتها التي لها أثر بارز على من يستعملها،خاصة إذا كان هذا الستعمل ينتمي "لعصر الرعاع أو الفوضى" ؛الكلمة التي سكها ماكلوهن بدهاء ا ... ·
عندما كتب مارشل ماكلوهان،أول من آستعمل عبارة أن العالم أصبح قرية صغيرة، " الوسيلة هي الرسالة" "the medieum is the messageلم يخطر بباله أن هذا العالم سيصير في يوم من الأيام حظيرة صغيرة متحكم فيها من طرف راعي دائم الوجود لكنه غير مرأي !
فمقولة "الوسيلة هي الرسالة "،والتي يمكن أن نفهم منها أنه بالإضافة إلى سبر أغوار الرسالة يجب أن نركز جهدنا على فهم الوسيلة ومميزاتها التي لها أثر بارز على من يستعملها،خاصة إذا كان هذا الستعمل ينتمي "لعصر الرعاع أو الفوضى" ؛الكلمة التي سكها ماكلوهن بدهاء الفلاسفة عن طريق شق كلمةmess-ageالرسالة إلى شطرين (/ mass-age /mess/age) بهذا المعنى لا يسعنا إلا أن نقول أن ما نشر من طرف القائمين على صفحة في الفيسبوك يدخل في إطار الفكر المعلب سلفا الذي من شأنه أن يتم إستهلاكه دون أدنى مبالاة بما نظر له نيتشه عندما قال بفكرة "قلب القيم" "trans-valuation of values"في نقد لاذع للمسيحية ومنظومتها الأخلاقية. قلب القيم ،ولو بطريقة معاكسة للطرح النتشوي، هو ماقام به فعلا أصحاب هذه الصفحة عندما قامو بنشر خبر أثار الكثير من الجدل خاصة في وسائل الإعلام المستقلة عن الأخطبوب الإعلامي العالمي الذي يحاول توجيه الرأي العام للحقيقة المزيفة التي تخدم مصالحه وتلبس القاتل عباءة الظلوم والمظلوم عباءة المجرم .
أول ملاحظة على ما نشر هو العدد المزعوم في كون أنه قد تم إنقاذ ١٤٠ من الأطفال والنساء الايزيديّين من طرف رجل أعمال يهودي!!
فهذا العدد مبالغ فيه إذا آفترضنا جدلا أنه تم إنقاذ !فكل الصحف لم تذكر هذا العدد بما في ذلك صحيفة لوفيغارو ملفا كاملا "للخبر".
ثانيا إعتماد المسؤلين على الصفحة خطاب إنسانوي أجوف لا يمثل إلا رواية صحف صهيونية لا يهمها إلا تزيين صورة شريحة معينة من البشر وشيطنة شريحة أخرى.
ثالثا يجب العلم أن هذا الخبر لم تبث صحته.فقد سبق لزعيم الايزيديّين الروحي بابا شيخ اسماعيل أن عبر عن شكه إزاء ادعاءات ستيف مامان وطالبه بتقديم حجج ملموسة كما كتبت الجريدة الكندية الناطقة بالفرنسية"lapresse.ca".
رابعا ثم التأكيد وبشكل مثير للسخرية والضحك في آن على معتقد "المخلِص" و"المخلَص" يضرب في العمق الفكرة التي من أجلها وضعت الصورة.فكل قارئ متبصر للصورة والخطاب التي تفرزه سيجد نفسه أمام ثلاثة أطراف : المخلص الإنساني الطيب الذي جاء في المقام الأول.المضطهد المسكين الذي آسترعى آهتمام هذا المخلِص الذي يفيض إنسانية وكرما دفعاه لإنقاذ وإرجاعه لحظيرة الإنسان الذي الكريم والمبجل.أما الطرف الثالت فهو المجرم القاتل والعديم الإنسانية.طبعا هذا الطرف الأخير مجرم وقاتل واوجب على كل من له أدنى ذرة إنسانية في قلبه أن يحاربه ويحارب الأفكار التي من الممكن أن تؤدي إلى ظهوره شريطة أن نعرف "من أين جاء"؟؟!
وبعد كل هذا ماذا يمكننا أن نستشف من مثل هكذا منشورات؟
أول شئ أثار حفيظتي هو إعتماد من وضع الصورة ووجه قرائتها هو آعتماد خطاب إنسانوي أجوف لا ميزان له عند أي مفكر حصيف ومنصف .هذا الخطاب الإنسانوي الذي سار مثل خنجر يمتشقه العديد من صغار العقول لإنتقاد كل شئ بما في ذلك القائق الكبرى ، متخدين شرذمة من "المكتئبين والسدج والفاشلين" (كما وصفهم الصحفي الأوروبي الذي آخترق التنظيم الدموي متخدا إسم سعيد رمزي) كمثال لتبلور ذهنية تمثل الآخر الأقل إنسانية ولذلك وجب سحقه! مثل هؤلاء الذين يروجو هذا الخطاب الإنسانوي الرخيص لا قدرة ولا جرأة لهم على آستيعاب ما كتبه فرانز فانون في كتابه "المعذبون في الأرض" :"يجب أن يُدشنوا تاريخًا جديدًا للإنسان الذي يأخذ بعين الاعتبار ... جرائم ]أوروبها[ب والجرائم الأبشع التي قد ارتكبت في قلب الإنسان بحد ذاته."
وإذا أردنا أن نستمر في تفكيك خطاب الإنسانوية الممجوج الذي آعتمد في الصورة فالشواهد والإقتباسات كثيرة.حسبنا أن نذكر في هذا المقام ما كتبه إدوارد سعيد، المفكر العربي الفذ الذي لم يمنعه لا توجهه اليساري ولا مسيحيته من الجهر بالحقيقة وقض مضجع الغرب. فبالإضافة لكتاب ا"لإستشرق" الذي يعتبر نصا أساسيا في كشف رعونة الفكر الغربي الذي قدم نفسه كفكر أكثر إنسانية من الآخر الشرقي ،كتب إدوارد سعيد في آخر مقال له . كنهه أن تكون نا قدًا للإنسانويَّة باسم الإنسانويَّة ...ومتعلما من تجاوزاتها عن طريق تجربة المركزيَّة الأوروبية والإمبراطوريَّة فبإمكان المرء أن يصوغ ضربًا آخر من الإنسانوية." أما فانون فقد وجه نداء عميقا لكل من يتبجح بالإنسانية أن تكون له الجرأة في "صناعة بداية جديدة ، ووضع طريقة جديدة للتفكير ،والعمل على خلق إنسان جديد." وفي إنتظار تحقق هذا الحلم البعيد المنال في زمن الفيسبوك، نتساءل متى سينشر أصحاب صفحة فكر حر صورة و مقتطفات من مقال جون جوني "أربع ساعات في شاتيلا" ،خاصة بعد مرور ثلاثون سنة على وفاة هذا الكاتب الإنساني العظيم؟
)توفي جون جوني )Jean Genet)سنة 1986 في باريس و أوصى أن يدفن في العرائش، وألا يوضع فوق قبره صليب.) أظهر الكل ..
هل فكرة يوماً بحوار يدور بين أعمى و أبكم ؟
حسناً .. سأخذ دور الأعمى و أنت الأبكم ... لترى ما سأكتبه ._^
كيف ستقنعني يأن هناك فرق بين الجمال و القبح ؟
انا أحكم بما أسمع فقط و أنت ترى ولا تتكلم ..
لا أظنها أشياء مادية و الأشكال هي من تعبر عنها...
أنا أحب كل شيء حتى يثبت الشيء عكس ذلك ..
أنت تحتاج لضوء لترى في الظلام ؟
أنا لا أحتاج هذا ! هل أنا أفضل منك ؟
أنت تفكر الأن ؟ كيف تقنعني بأنك الأن تفكر ؟
أنا لا أراك إذا أنت لست موجود ؟
إذ ...
هل فكرة يوماً بحوار يدور بين أعمى و أبكم ؟
حسناً .. سأخذ دور الأعمى و أنت الأبكم ... لترى ما سأكتبه ._^
كيف ستقنعني يأن هناك فرق بين الجمال و القبح ؟
انا أحكم بما أسمع فقط و أنت ترى ولا تتكلم ..
لا أظنها أشياء مادية و الأشكال هي من تعبر عنها...
أنا أحب كل شيء حتى يثبت الشيء عكس ذلك ..
أنت تحتاج لضوء لترى في الظلام ؟
أنا لا أحتاج هذا ! هل أنا أفضل منك ؟
أنت تفكر الأن ؟ كيف تقنعني بأنك الأن تفكر ؟
أنا لا أراك إذا أنت لست موجود ؟
إذا نحنُ نكمل بعض ؟
لماذا عندما نتفق يبدأ الإخلاف أما أن الإختلاف بدا أولاً ؟
قيل لي أني أسود..أنا لا أعرف لونك وان كذبت علي لن يغير هذا شيء من وجودك ؟
لا أعرف الحقيقة من الكذب بل أتحرى منها .. هل تفعل ذلك مثلي ؟
هل أصبحت نقطة ضعفك هي النظر ؟
أنا لا أسمعك .. هل تتقن لغة الإشارة وتود التواصل معي !
اذا علمك لا فائدة منه... أنت ترى كل شيء وعاجز الأن أمامي ..
ألم تفكر من قبل في مواجهة هذا الموقف .. حتى وإن كنت تستطع الكلام كيف ستجيبني؟ أظنك لن تكون أفضل من الأبكم ...
حسنا الأسئلة امامك أجب يا من ترى الحياة بألوانها ؟
هل تفكر بأن العمى أفضل من البُكم ؟ حتى أنا أفكر في العكس !
أتمنى أن أرى العالم و لا يهم ما سأقوله ..
وأنت تتمنى أن تتكلم .. لكن ماذا ستقول ... أنت لم تشاهد شيء ..
احتفظ ببكمك فكرتك غير جيدة .. وانا سأحتفظ .. بماذا سأحتفظ ؟
وماذا أملك ؟ وانت ماذا فقدت ؟
هل ذهبت ... ربما كنت أتحدث مع نفسي طول هذه المدة !
إن كنت تسمعني فإذا أنا موجود ! لأنني أرى نفسي موجود اذا سمعني أحد فقط ..
لنترك مسألة ألوان الحياة فهي مختلفة ولنتعلم أشياء تفيدنا جميعا لرسم حياة أفضب
خُذ رأيتي للحياة و أنا سأراك إذا فعلت ... حتى وإن لم تنطق بحرف ..
لنجسد أفكارنا على أرض الواقع ... الواقع الذي لا أراه و أنت تراه ...
لكن سأحس به إن فعلنا ذلك معا ...
العمى هو ظلام الذي بداخلنا .. البُكم هو العجز الذي يكبلنا ..
أنت ترى ؟ تتكلم ؟ ارني انظر اليك
أظهر الكل ..التاريخ البشري إنما هو تاريخ امتزاج دافع الأمل بمعطيات التطور المادي للتاريخ، فالتطور الاجتماعي للحضارة برمتها مشهد يعكس في بعده الخاص والعام رحلة الإنسان المكافح من أجل بناء تاريخه الإنساني الحضاري، ولا شك أن مثل هذه الغاية المتلازمة مع تلك الرحلة وذلك الكفاح تمثل في واقع الأمر القاسم المشترك لقرون من التطلعات الإنسانية، يمكن تحديد بدايتها مع بداية التاريخ وحتى هذه اللحظة.
ولذا فإن قراءة الدلالات التي ينطوي عليها ذلك القاسم المشترك تؤكد حياة الأمة المتجددة وفاعليتها المتواصلة، بغض النظ ...
التاريخ البشري إنما هو تاريخ امتزاج دافع الأمل بمعطيات التطور المادي للتاريخ، فالتطور الاجتماعي للحضارة برمتها مشهد يعكس في بعده الخاص والعام رحلة الإنسان المكافح من أجل بناء تاريخه الإنساني الحضاري، ولا شك أن مثل هذه الغاية المتلازمة مع تلك الرحلة وذلك الكفاح تمثل في واقع الأمر القاسم المشترك لقرون من التطلعات الإنسانية، يمكن تحديد بدايتها مع بداية التاريخ وحتى هذه اللحظة.
ولذا فإن قراءة الدلالات التي ينطوي عليها ذلك القاسم المشترك تؤكد حياة الأمة المتجددة وفاعليتها المتواصلة، بغض النظر عن تضاريس الزمان والمكان، ولذلك لا يجدر الكف عن التفاؤل الهادئ أمام مشاهد التاريخ التي تخبرنا بأن تاريخ الأمم يدرك بكثير من الجهد والأمل، وللوقت مدلوله النفسي وانعكاسه على أحوالنا الاجتماعية، خصوصا أنه في العقود الأخيرة أصبحت الأحداث تتسارع وتأخذ منحى أكثر عمقا ويؤثر في سلوكياتنا ونمط حياتنا.
إن الشعوب والأمم تحتاج إلى الأمل كما الفرد، فليس الفرد فقط هو من يعيش بالأمل، بل الشعوب أيضا، فالأمل هو عنصر حاسم في أي محاولة لإحداث تغير اجتماعي يتسم بالوعي والتنظيم، وقوة أساسية في حياة البشرية، فهو من أقدم الفضائل وأكثرها أهمية في حياة البشر ؛ إذ يجعلهم ينظرون إلى العالم على أنه مكان يستحق أن يعيشوا فيه، وبالتالي يصعب عليهم العيش من دونها.
يقول فيلسوف الأمل "أرنست": الغد يحيا في اليوم، والناس تتطلع إليه على الدوام، إذ يرى أن البشر كانوا دوما يتحركون بتأثير فكرة، وأن أفضل ما يرجونه من أوضاع لم يتحقق بعد، وأن تاريخهم إنما هو تاريخ امتزاج دافع الأمل بمعطيات التطور المادي للتاريخ .
اليأس أمل مؤجل!
اليأس مثل الأمل يصنع التغيير أيضا، فكلاهما صنعا التقدم البشري، هذه الجدلية النادرة باتت تتفاعل اليوم في التاريخ الحاضر للأمة العربية على نحو جديد وغير متوقع، فاليأس يفتح سيكولوجيا بوابة إلى الأمل، بل إلى التحدي، وهذا ما بدأ ينمو اليوم، فالأمل ليس هاجسا، بل هو مبدأ أخلاقي موضوعي فاعل في كل معادلات التغيير وبناء الأمم عبر التاريخ، فالشواهد التاريخية والنفسية تدفع الإنسان والأمم إلى الأمل بعد اليأس لتصنع تاريخا جديدا.
فلقد أمد القرآن أممه بهذا الشعور بأسلوب يخرج من الأمة الميتة أمة كلها حياة وهمة وأمل وعزم، ولقد عاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على الذين ينفرون الناس، ويضعونهم في موقع الدونية والهزيمة النفسية، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم ".
إن الانحدار إلى القاع ليس هو الكارثة، لكن الكارثة هي الاعتقاد أنه لا سبيل إلى الخروج من القاع، إن الدواء ليس في بكاء الأطلال وندب الحظوظ، وإنما يكون في الترفع عن الواقع ومحاولة تحويل عوامل الضعف إلى قوة، واليأس إلى أمل، والهدم إلى بناء ونهوض وتعمير.
إن قراءة التاريخ في أيام الأزمات تمنحنا الأمل بأن الواقع سوف يتغير، فقد نجا الله موسى وقومه بعد صبر وجلد، وهجرة ومطاردة، "فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين".
ولقد بين لنا القرآن الكريم نموذجا آخر من هذا الأمل في قصة يوسف عليه السلام، حيث لم ينقطع الأمل عن يعقوب عليه السلام لما فقد يوسف، وازداد أمله في الله حين فقد الابن الثاني، فقال: "عسى الله أن يأتيني بهم جميعا"، وعسى عند أهل اللغة تفيد الرجاء واليقين.
نحن أمة لا تموت!
محمد رسول الله، نبي الأمل إلى الإنسانية كلها، هجر من أرضه وهاجر قومه إلى الحبشة وإلى المدينة، هاجروا لبناء تاريخ لا يأس ولا جمود فيه، وعاد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فاتحا، وعاد أصحابه مفاتيح نور وحياة وأمل وتجديد، عادوا فاتحين مبشرين بأمل جديد وبنفوس تحمل البناء والعفو.
فلو قدر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم حوصر -عليه الصلاة والسلام- في الغار، ولو قدر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم أحد، ولو قدر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم الخندق، يوم الأحزاب، المعركة التي لم تكن معركة خسائر بل معركة أعصاب وبقاء وبشائر بالفتح، ولو قدر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم توفي النبي عليه الصلاة والسلام، ولو قدر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم الردة، يوم تخلت العرب عن دينها وعادة لجاهليتها، لولا ثبات الصديق وإيمانه بسمو مبادئ الرسالة الأعظم في تاريخ الحياة.
ولو قدر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم اجتاح التتار بغداد، يومها كانوا كما اليوم في حلب الفيحاء، يمارسون تدمير المدن، وخراب العمران، يومها عملوا في الأمة ما لم يعمله أحد قبلهم، أسقطوا الخلافة، وعطلوا الصلوات، وألقوا الكتب في نهر دجلة، حتى اسود ماؤه من كثرة ما سال من مداد الكتب، حينها قال المؤرخ ابن الأثير: "ليت أمي لم تلدني، ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا".
ولو قدر لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم اجتاح القرامطة مكة، وذبحوا الطائفين حول بيت الله، واقتلع زعيمهم يومها الحجر الأسود من الكعبة، ووقف يصرخ بأعلى صوته في ساحة الكعبة "أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟"، فالتاريخ يعيد نفسه اليوم في حلب بصور مختلفة.
لو قدر لهذه الأمة أن تموت لماتت في الجزائر على أيدي الفرنسيين، ولماتت في البوسنة على أيدي الصرب، ولماتت في الشيشان على أيدي الروس، ولماتت في بغداد، وفي حلب، لكنها أمة لا تموت لأنها أمة الاستخلاف في الأرض والتمكين.
سيكولوجية الأمل الواقعي!
فالأمل الموضوعي القائم على اعتبارات عملية تنبع من الجهد الإنساني يعتبر أساسيا في تنشيط حركة التاريخ وتسريعها، وجعلها تتغلب بيسر على ما يعترضها من صعوبات ومعوقات، يرفض الواقع التجريبي الحافل بالمعوقات نحو مستقبل مثالي مشروط بالعمل، ومن وجهة نظر سيكولوجية يمنح الأمل الإنسان شعورا أكثر من مجرد المواساة وسط الأحزان، فالإنسان يعيش في الحاضر مشدودا بين وترين، الماضي والمستقبل، فهو يحمل الماضي في وعيه، وفي ذاكرته، وفي تركيب جسده، مثقلا بأحزانه وأفراحه، ومخاوفه وآماله، مندفعا بها نحو المستقبل، بل يؤدي دورا فاعلا في الحياة بصورة مدهشة، فالأمل يرتبط إيجابيا بالثبات الانفعالي والصلابة النفسية والرضا عن الحياة.
إن الإحساس بالأمل أحد العوامل المهمة والمؤثرة في تحقيق الاستمرار في الحياة الحضارية، فالأمم تحتاج إلى الأمل كما الفرد، فليس الفرد فقط هو من يعيش بالأمل، بل الشعوب أيضا، فالأمل هو عنصر حاسم في أي محاولة لإحداث تغير اجتماعي يتسم بالوعي والتنظيم، وقوة أساسية في حياة البشرية.
يا أنت .. الأمل تصنعه إرادة نابضة عرفت كيف تتحرر، نفس تضيء، وهمة تتوقد.
يا أنتم.. إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها.
أظهر الكل ..هذا الرجل أمره غريب، لا يبتسم و لا يتحدث، و لا يمرض و لا يصلي، و الأغرب من ذلك أنه يعيش في هذا الحي دون أن يدخن و أن يشرب الكحول. لا معلومة لأحد عنه غير أنه يرمي كل مساء فتات الخبز للطيور و القطط، حتى صاروا أبناءه غير البيولوجيين، و يتهافتون على منزله قبل كل غروب شمس. يعتبره البعض معتوها يتجنب الناس، و يرى البعض الآخر أن إنزواءه جيد، و ذلك ما يجب أن يعتمده الشخص ليبقى على قيد الحياة في وجود عنيف كهذا، وجود يؤذي الناس اللطيفة.
هذا ا ...
هذا الرجل أمره غريب، لا يبتسم و لا يتحدث، و لا يمرض و لا يصلي، و الأغرب من ذلك أنه يعيش في هذا الحي دون أن يدخن و أن يشرب الكحول. لا معلومة لأحد عنه غير أنه يرمي كل مساء فتات الخبز للطيور و القطط، حتى صاروا أبناءه غير البيولوجيين، و يتهافتون على منزله قبل كل غروب شمس. يعتبره البعض معتوها يتجنب الناس، و يرى البعض الآخر أن إنزواءه جيد، و ذلك ما يجب أن يعتمده الشخص ليبقى على قيد الحياة في وجود عنيف كهذا، وجود يؤذي الناس اللطيفة.
هذا الرجل أنهكته الوحدة و يفكر كثيرا في مطلقته، و ها قد ساورت مخيلته في هذه العشية صورتها، مثلما إرتسمت في ذهنه. تنهد و هو يقول في نفسه: "لو عشنا سويا و جاءت معي إلى هذا الحي لإحترقت، كان طلاقنا مغامرة مثل زواجنا، أين هي الآن و أين أنا ؟ تحاببنا لنتعذب، و تزوجنا لنفترق، سبعة أشهر عشناها زوجين و أربع سنوات مخطوبين ! أربع سنوات تعاقبت فيهم حكومات كثيرة، و مطبات إقتصادية بالجملة، و لم تكن كافية لزواج مخطوبين أنانيين. كلانا أناني، أنانيتها في سبيل حياة راقية و معقدة، و أنانيتي في سبيل حياة بسيطة و هادئة".
عادت به الذكرى إلى العاصمة، إلى المدينة العتيقة بالتحديد، إلى مقهى بذلك المكان الجميل، حيث كان ينتظر نافذتها المقابلة أن تفتح، و هو صابر على الحر و الذباب و تهافت الباعة الجوالين عليه. كان يقضي الساعات الطوال لعله يراها من خلال النافذة، لكن ذلك المقهى قد تم هدمه الآن بالكامل لتحل محله مبان جديدة عملاقة، تفطن إليها عند زيارته الأخيرة للعاصمة حيث حاول إستنشاق هواء الذكريات المنعش رغم علمه أنه لن يحظى بتلك الفرصة مجددا. و تتابعت في نفسه الذكريات تتابع الرسائل اليومية التي كانت تصله منها، هي الزميلة في الكلية ثم الصديقة ثم العشيقة ثم الزوجة ثم المطلقة، آه، كم كانت تحسن الكتابة في الشوق ! كانت رسائلها لهبا عاطفيا متواصلا. كانت هي تحسن اللغة الفرنسية على عكسه تماما، و كانت تتعمد إيذاء قلبه الرقيق بمراسلته بالفرنسية حتى ترهقه الترجمة.
لم يتم الزواج في العاصمة كما خططا في البداية، فلا ظروفه المادية سمحت بذلك، و لا ظروفها العائلية ساعدت. في نظر والديها لم يكن هو إلا لاجئا من اللاجئين النازحين من الأحياء الشعبية الفقيرة، و السمعة ترفض مصاهرة عائلة محترمة للاجئ لا ماضي له و لا مستقبل واضح ينتظره.
عندما تقدم لخطبتها من أبيها بعد إلحاح منها قال له الأب: "تأن حتى نتحقق من أمرها، أنت تعرف أنها مدللة، لقد إنفصلت عن خطيبها السابق بلا سبب".
التأني لم يكن شهرا في نظر الأب، بل كان مدى الحياة، فرجع إلى الحي و لم يكن في حسبانه أن تتمرد الفتاة على أبويها في يوم من الأيام، و تلتحق به إلى ذلك الحي النائي. لقد وصلته برقية منها تنبئه بالساعة التي سيحل فيها القطار إلى الولاية ليعترض سبيلها و يرشدها إلى منزله الكائن في قلعة يعيشها اللصوص و الخمارة، و الهباطة في الموانئ.
كانت الأسابيع الأولى في حياة العشيقين غراما محرقا ليس كمثله غرام و مع ذلك تأهب و إستعداد لإقامة حفل الزفاف. إشتغلت هي كاتبة في إحدى الشركات الخاصة، و إشتغل هو في إحدى المصالح العمومية، و بما يتقاضيانه إستطاعا تأثيث بيتهما في المدينة كما أحبا، و تهيئة حفل الزواج بإحكام. إختارا المدينة للهروب من أعين الناس، الذين سيلصقون بهم تهما كيدية بسبب بقاءهما مع بعض دون زواج.
لكنها كانت في أعماقها تتطلع من وراء هذا الزواج إلى حياة أنعم و أرفع، فقد كانت تأمل أن يصبح زوجها وزيرا أو في درجة تقارب ذلك. و هذا الطموح الجامح أشقاها و أشقاه، فلم يجد طريقة لإقناعها بأن الحياة الرائعة لكل الزوجين هي فيما يكون بينهما من ود و تفاهم، فجابهته بأنه خجول و خائف و طلبت منه أن تفتح بين يديه المجال لنيل أعلى المناصب. و كان فتح المجال عندها يتمثل في إقامة الحفلات الخمرية الساهرة في بيتها.
لم تمضي أيام كثيرة حتى كثر أصدقاء الزوجين الحبيبين، و صار بيتهما ملتقى لكل البرجوازية الإدارية في تونس، و عرف هو في تلك الفترة من حياته كثيرا من أنواع الخمور و الكحول و أسماءها و الفروق الدقيقة بين لون و لون، من المونياك خمسة نجوم إلى الشامبانيا السوداء و ما أشتق منها من أمزجة رفيعة. و رغم تفتحه إلا أنه وجد الضيق في هذه الجلسات، بينما بدت هي مرتاحة جدا و مغتبطة كل الإغتباط. فكان الضيوف يخبرونها بأن العاصمة هي الحضارة و التوق، و أن الأحياء الفقيرة لا تزال منغلقة على نفسها و على أصحابها، كان يسرها سماع ذلك، و يحزنه هو أن تصدق زوجته تلك الترهات.
بعد ذلك أخذت أسباب التفاهم تنمحي بسرعة مثل السعادة، و تحل محلها دواعي التنافر و التنابز. حتى وصل النقاش بينهما ذات يوم إلى ذروته، و أستعمل لفظ "طلاق". فإنكسر ذلك الشئ الذي لا يصلح بعد كسره، و إنتهت قصة رائعة البداية بنهاية مأساوية، مثل نهاية رحلة المهاجرين غير الشرعيين الحالمين بحياة جديدة، أدت بهم إلى عمق البحر المتوسط، فصدر حكم الطلاق.
ذاق هو بعد ذلك علقم الغيرة إثر إبتعاده عنها، و واصلت هي سهرات المجون مع هؤلاء الضيوف. فإتخذ من إطعام قطط الحي و الطيور شغلا دون أجر، و إنعزل عن الجيران و الأصدقاء، و عن الدولة و عن كوكب الأرض. ليصبح غريبا دون هوية، و جثة هامدة رغم إشتغال القلب و الأجهزة التنفسية، و إعتنى بأبناءه غير البيولوجيين.
أظهر الكل ..